حكم رفع الصوت بالتلبية
تعدّ التلبية شعار الإحرام الذي يُدخل به إلى النُسُك؛ والتي جاءت كجواب على دعوة سيدنا الخليل إبراهيم -عليه السلام-؛ حينما أذن بالناس ليأتوا إلى الحجّ بأمر من الله -تعالى-؛ وقد قال -سبحانه- في ذلك: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).[١][٢]
ولقد فصّل العلماء في حكم رفع الصوت بالتلبيّة بحسب المُلبي؛ ذكراً كان أم أنثى، وفيما يأتي تفصيل ذلك:
حكم رفع الصوت بالتلبية للرجال
يُسنّ للرجل المُحرم رفع صوته بالتلبية عند عقد نيّة الإحرام؛ وهو قول جمهور الفقهاء، استدلالاً بما ثبت عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنّه قال: (صَلَّى النبيُّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بالمَدِينَةِ الظُّهْرَ أرْبَعًا، والعَصْرَ بذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بهِما جَمِيعًا)؛[٣] أيّ بالتلبية للحجّ والعمرة.[٤]
كما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: (أتاني جبريلُ -صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ- فأمرني أن آمرَ أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتَهم بالإِهلالِ، أو قالَ بالتَّلبيةِ -يريدُ أحدَهما-).[٥][٤]
ولقد عدّ بعض أهل العلم رفع الصوت بالتلبيّة من أعظم الأعمال؛ وذلك لما يأتي:
- إنّ في رفع الصوت بالتلبية إقامة لذكر الله -تعالى-، وتذكير به؛ فكل ما في السماوات والأرض يسبح بحمد الله، وإن كنّا لا نفقه تسبيحهم؛ وبذلك يقول -سبحانه-: (... وإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ...).[٦][٧]
- إنّ في رفع الصوت بالتلبية إشهاداً للمخلوقات على ذلك؛ لتأتي يوم القيامة تقرّ بهذا الفعل كما في رفع الصوت بالأذان؛ قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي سعيد الخدري: (... إِذَا كُنْتَ في غَنَمِكَ، أوْ بَادِيَتِكَ، فأذَّنْتَ بالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بالنِّدَاءِ، فإنَّهُ: لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ ولَا إنْسٌ ولَا شيءٌ، إلَّا شَهِدَ له يَومَ القِيَامَةِ).[٨][٩]
- إنّ في رفع الصوت بالتلبية إشراكاً للكون أجمع في هذا الفعل الجليل؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (ما من مسلمٍ يلبِّي إلَّا لبَّى من عن يمينِه أو عن شمالِه من حجرٍ أو شجرٍ أو مدرٍ، حتَّى تَنقطعَ الأرضُ من هاهنا وَهاهنا).[١٠][١١]
حكم رفع الصوت بالتلبية للنساء
ذهب جمهور أهل العلم إلى القول بكراهة رفع الصوت بالتلبية للمرأة؛ وأنّ رفع صوتها بالتلبية خلاف السنّة؛ إذ إنّها تقتصر في تلبيتها على إسماع نفسها، وإسماع من حولها من النساء؛ واستدلوا على ذلك بالقياس على الأحاديث التي تأمر المرأة بخفض صوتها في مجامع الرجال؛ خشية الافتتان به، لا سيما إن كانت حسنة الصوت.[١٢]
كما قاسوا ذلك على أنّ المرأة مأمورة بالتصفيق دون التسبيح؛ إذا أرادت التنبيه إلى أمرٍ ما في الصلاة مع الرجال؛ وذلك لئلا يظهر صوتها فيُفتتن به.[١٢]وذهب بعض أهل العلم إلى القول بأن رفع الصوت بالتلبية للمرأة لا يُحرم، ولو وقع منها ذلك فلا بأس به؛ لأنّ صوتها ليس بعورة، مخالفين بذلك قول جماهير أهل العلم.[١٣]
فوائد التلبية
اشتملت التلبية التي وردت بالصيغة الثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على قواعد عظيمة، وفوائد وإشارات جليلة؛ يمكن ذكر بعضٍ منها على النحو الآتي:[١٤]
- إنّ قول "لبيك" يتضمن إجابة دعوة داعي؛ ولا يُعقل إجابة من لا يتكلّم أو من لا يدعو.
- إنّ التلبية تتضمن معاني المحبة والتودد؛ فالإنسان لا يقول لأحدٍ "لبيك" إلا إذا كان يحبّه، ويعظّمه؛ ولذلك قيل في معنى التلبيّة: "أنا مواجهٌ لك بما تحب".
- التزام دوام العبوديّة؛ فتأتي بمعنى الإقامة، أيّ أنا مقيم على طاعتك.
- تحقيق معاني الخضوع والتذلل؛ فالإنسان يتذلل إلى الله -تعالى-، خضوعاً بعد خضوع.
- إنّ التلبية تتضمن معاني الإخلاص؛ لذا قيل إنّها من اللبّ، أيّ الشيء الخالص.
- الإقرار بسمع الله -تبارك وتعالى-؛ فلا يصحّ تلبية من لا يسمع الإجابة.
- شعار الانتقال من حال إلى حال، ومن نُسُك إلى آخر، كما في تكبيرة الإحرام؛ التي كانت شعار الانتقال من مشاغل الدنيا وملهياتها، إلى لقاء الله -تبارك وتعالى-.
- شعار التوحيد وملّة إبراهيم -عليه السلام-؛ الذي هو روح ومقصد الحجّ، وروح العبادات كلّها.
- إنّ التلبية تتضمن مفتاح الجنّة، ومفتاح الإسلام الذي يُدخل به؛ وهي كلمة الإخلاص والشهادة لله -تعالى- بالوحدانية، ونفي الشريك عنه.
- حمد الله -تعالى- الذي هو من أحب الأعمال التي يُتقرب بها إلى الله -تعالى-، وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها، كما أنّ الحامدين أول من يُدعون إلى الجنّة.
- الاعتراف لله -تعالى- بتفضّله وإنعامه بالنعم كلّها.
- الاعتراف بملك الله -تعالى- وحده لهذا الكون، مع الثناء عليه.
- انجذاب القلب وحسن إقباله على الله -تعالى-؛ للمهابة، والمعاني التي توقعها التلبيّة في النفس والقلب.
المراجع
- ↑ سورة الحج، آية:27
- ↑ الصنعاني، التحبير لإيضاح معاني التيسير، صفحة 251، جزء 3. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:1548، صحيح.
- ^ أ ب محمد الخضر الشنقيطي، كوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري، صفحة 78-79، جزء 13. بتصرّف.
- ↑ رواه أبو داود، في سنن أبي داود، عن السائب بن خلاد، الصفحة أو الرقم:1814، صحيح.
- ↑ سورة الإسراء، آية:44
- ↑ ابن عثيمين، مجموع فتاوى ورسائل العثيمين، صفحة 136، جزء 5. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري، الصفحة أو الرقم:609 ، صحيح.
- ↑ سعيد بن وهف القحطاني، صلاة المؤمن، صفحة 131، جزء 1. بتصرّف.
- ↑ رواه الترمذي، في سنن الترمذي، عن سهل بن سعد الساعدي، الصفحة أو الرقم:828، صححه الألباني.
- ↑ ضياء الدين المقدسي، فضائل الأعمال، صفحة 74. بتصرّف.
- ^ أ ب سعيد بن وهف القحطاني، مناسك الحج والعمرة في الإسلام في ضوء الكتاب والسنة، صفحة 237-238. بتصرّف.
- ↑ الرافعي، عبد الكريم، فتح العزيز بشرح الوجيز الشرح الكبير، صفحة 263، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ ابن القيم، تهذيب سنن أبي داود، صفحة 336-340، جزء 1. بتصرّف.