مظاهر التيسير في الحج

دعت حاجة الناس في الحجّ إلى ضرورة التيسير عليهم في كثير من العبادات والأعمال المتعلقة بهذا الركن الجليل؛ وذلك نظراً لاجتماع أعداد غفيرة من الناس لأدائه في منطقة واحدة، وتوقيت واحد، إضافةً إلى تعدد أحوال الناس من القوة والعزم، والوهن والضعف، وحسن معرفتهم بالدين، وبأحكامه الشرعيّة.


ولقد سلّط أهل العلم الضوء على العديد من مظاهر التيسير في فريضة الحجّ، وإدراجها تحت قاعدة: (... يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ...)،[١] ويمكن بيان بعضها -على سبيل الذكر لا الحصر- بما يأتي:


وجوب أداء الحجّ مرة واحدة عن الاستطاعة

اشترط الفقهاء لوجوب الحجّ على المسلم أن يحقق الاستطاعة؛ لاقترانها بالحجّ في العديد من النصوص الشرعيّة، على رأسها قوله -تعالى-: (... وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا...).[٢][٣]


وتحقيق الاستطاعة يكون بوجود الزاد والنفقة، ووسيلة النقل ذهاباً وإياباً، مع سلامة البدن من الأمراض التي تعيق أداء الحجّ، إضافةً إلى أمن الطريق.[٣] وإذا أدّى الإنسان هذا الفرض الواجب مرةً واحدة في العمر سقط عنه، وكذلك لو لم يتمكن من تحقيق شروط الاستطاعة سقط عنه.[٤]


قصر الصلاة

ذهب جمعٌ من أهل العلم إلى أنّ قصر الصلاة وجمعها في الحجّ ثبتت عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أمّا في منى فكان -صلوات الله عليه- يقصر ولا يجمع؛ ومن الأدلة على ذلك ما ثبت في السنة النويّة في صفة حجّ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (... ثُمَّ أَذَّنَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بيْنَهُما شيئًا... حتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بهَا المَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بأَذَانٍ وَاحِدٍ وإقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُسَبِّحْ بيْنَهُما شيئًا...).[٥][٦]


وذلك رفعاً للحرج والمشقة، إذ إنّ الحاجّ ينشغل في عرفة باتصال الوقوف، والتفرّغ للعبادة والدعاء، بينما ينشغل في مزدلفة بالسير والنفير، فكان سبب الجمع والقصر مراعاة لأحوال العباد، وللحرص على أداء العبادة على أتمّ وجهٍ وخشوع.[٦]


وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ سبب الجمع والقصر كان لأجل السفر، بينما رجّح بعضهم الآخر أن سبب هذه الرُّخص هو النُسُك، وأيّاً كان السبب فإن هذا من مظاهر التيسير على الحجيج في أثناء أداء مناسكهم.[٦]


التيسير في وقوف عرفة

يسّرت الشريعة في الكثير من الأمور المتعلقة بالوقوف بعرفة؛ استدلالاً بقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الحَجّ عَرَفةٌ -أوْ عَرَفاتٌ- فمَنْ أَدْرَكَ عَرَفةَ قبلَ طُلوعِ الفَجْرِ فقد أَدْرَكَ الحَجَّ...)،[٧][٨] ونذكر من ذلك:[٩]

  • أنّ من وقف بعرفة ولو للحظة واحدة قبل طلوع الفجر، كُتب له أداء منسك الحجّ.
  • أنّ إدراك عرفة يكون بالوقوف في أيّ جزءٍ منه، وضمن حدوده المبيّنة.
  • عدم اشتراط النيّة للوقوف بعرفة عند بعض الفقهاء، فيصحّ حجّ من لو ينوِ الوقوف لنسيان أو جهل أو نحو ذلك.


التيسير في مغادرة مزدلفة لأهل الأعذار

ثبت في السنة النبويّة أنّ الواجب على الحاجّ المبيت في مزدلفة حتى يصلي الفجر، وتطلع الشمس، ثم بعدها يدفع إلى منى، ولكنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاز للضعفاء من النساء، وكبار السنّ وأصحاب الأعذار -من المرضى وغيرهم-، أن ينفروا من مزدلفة بعد منتصف الليل دون المبيت فيها، كما يجوز لغير أهل الأعذار من المرافقين المغادرة معهم، وهذا مراعاة لأحوالهم، وتفادياً لاكتظاظ الناس وتدافعهم عند الدفع.[١٠]


وقد ثبت في ذلك ما ذكره الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّه كان: (يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أهْلِهِ؛ فَيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ بالمُزْدَلِفَةِ بلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ ما بَدَا لهمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أنْ يَقِفَ الإمَامُ وقَبْلَ أنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَن يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الفَجْرِ، ومِنْهُمْ مَن يَقْدَمُ بَعْدَ ذلكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الجَمْرَةَ. وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما يقولُ: أرْخَصَ في أُولَئِكَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ).[١١][١٢]


التيسير في ترك الحائض لطواف الوداع

يسرت الشريعة الإسلاميّة على المرأة الحائض ومن في حكمها -كالنفساء- بترك طواف الوداع إذا أدّت طواف الإفاضة؛ فيجوز لها أن تسافر دون أن تطوفه، ودون الحاجة لانتظار طهارتها حتى تتمكن من أدائه، إضافة إلى أنّ لا شيء يترتب عليها في هذا الترك.[١٣]


ودليل ذلك ما ثبت عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بطواف البيت عند وداعه، ولم تُلزم الحائض به؛ فقال: (أُمِرَ النَّاسُ أنْ يَكونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بالبَيْتِ، إلَّا أنَّه خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ).[١٤][١٣]


وهذا مراعاة لأحوالها؛ فلربما تأخرت القافلة في العودة إلى بلدها بسبب هذا، وربّما تعذّر على محرمها أو رفقتها انتظارها، فيُؤدي ذلك لوقوعها في حرج وفوات وسلة النقل، وغيرها من الأسباب.


التيسير في الشريعة الإسلاميّة

قامت الشريعة الإسلاميّة على تيسير أداء العبادات -في غالب الأحوال- على المكلّفين؛ إذ إنّ التيسير ورفع الحرج والرحمة بالعباد هو ما تقتضيه سماحة هذه الشريعة الإلهيّة، كما أنّ ذلك مدعاة للالتزام بأحكامها، وأداء ما فيها من العبادات والطاعات دون تقصير أو تعذّر بالمشقة، فالله -سبحانه- جعل تغيير الأحكام من الصعوبة إلى السهولة، ومن التحريم إلى التحليل بحسب حال الفرد، أو حال الأمة.[١٥]


وقد قال -سبحانه- في بعض الرُخص: (... فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ...).[١٦][١٥] إضافةً إلى أنّ بعض الفقهاء والعلماء عنونوا قاعدة فقهيّة من أهم القواعد التي تقوم عليها الأحكام الشرعيّة، بقولهم: "المشقّة تجلب التيسير"، و"إذا ضاق الأمر اتّسع".[١٧]

المراجع

  1. سورة البقرة، آية:185
  2. سورة آل عمران، آية:97
  3. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، صفحة 348-349، جزء 32. بتصرّف.
  4. سعيد بن وهف القحطاني، العمرة والحج والزيارة في ضوء الكتاب والسنة، صفحة 4-5. بتصرّف.
  5. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله، الصفحة أو الرقم:1218، صحيح.
  6. ^ أ ب ت مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية، صفحة 236-240، جزء 2. بتصرّف.
  7. رواه الحاكم، في المستدرك على الصحيحين، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، الصفحة أو الرقم:3141، صحيح.
  8. سعيد حوى، الأساس في السنة وفقهها العبادات في الإسلام، صفحة 3049، جزء 7.
  9. مجموعة من المؤلفين، الموسوعة الفقهية الكويتية، صفحة 322-323، جزء 45. بتصرّف.
  10. صالح الفوزان، الملخص الفقهي، صفحة 435-436، جزء 1. بتصرّف.
  11. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:1676، صحيح متفق عليه.
  12. ناصر بن مشري الغامدي، أحكام العبادات المترتبة على طلوع الفجر الثاني، صفحة 97-98.
  13. ^ أ ب حسين العوايشة، الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة، صفحة 425، جزء 4. بتصرّف.
  14. رواه مسلم، في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عباس، الصفحة أو الرقم:1755، صحيح.
  15. ^ أ ب ابن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، صفحة 485-486، جزء 2. بتصرّف.
  16. سورة البقرة، آية:173
  17. عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف، القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير، صفحة 115، جزء 1. بتصرّف.