الحكمة من الطواف حول الكعبة

شرع الله -سبحانه وتعالى- الطواف حول الكعبة المشرفة، على هيئة مخصوصة، وضمن ضوابط محددة؛ وقد اجتهد العلماء في البحث عن حكمة الشارع من هذا الأمر؛ فتوصلوا لعدد من الأسباب التي يمكن بيانها على نحوٍ مفصل كما يأتي:


عبادة لله تعالى

يطوف المسلمون حول الكعبة المشرفة -دون غيرها- امتثالاً لأمر الله -تعالى-، الذي أمر بالتّوجه في الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة منذ زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-،[١] وقد شرّع له بدلالة نصوص الكتاب العزيز، والسنة النبويّة، ومن ذلك:[٢]

  • قوله -تعالى-: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)؛[٣] ففي هذه الآية الكريمة أمر الله -تعالى- نبيّه إبراهيم وابنه إسماعيل -عليهما السلام- أن يُطهرا البيت من الأوثان، وذلك بعد أن رفعا قواعده وأسسه؛ وهذا يدلّ على أنّ الطواف بالكعبة مشروع منذ عهد الأمم السابقة.
  • قوله -تعالى-: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)؛[٤] وفي هذه الآية خطاب علني لأمة الإسلام، أمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- التي فرض عليها الحجّ، وكان من شعائره الطواف بالبيت.
  • ثبت في عدّة أحاديث نبويّة أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف بالبيت، وأمر بذلك؛ من هذه الأحاديث ما ثبت عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-؛ أنّها قالت: (إنَّ أَوَّلَ شيءٍ بَدَأَ به -حِينَ قَدِمَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- أنَّهُ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ...)،[٥] وثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّه قال: (إنَّ رَسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- كانَ إذَا طَافَ في الحَجِّ أَوِ العُمْرَةِ، أَوَّلَ ما يَقْدَمُ سَعَى ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ...).[٦]
  • أجمع علماء الأمة منذ القدم إلى يومنا هذا؛ على مشروعيّة الطواف بعد الأمر به في كتاب الله -تعالى-، وتظافر الأدلة من السنة النبويّة المشرّفة.


تعظيم البيت الحرام

إنّ تعظيم البيت الحرام والكعبة المشرفة يستند إلى ما أشرنا إليه سابقاً، نابعاً عن عقيدة صادقة، وإيمان تام؛ فقد عظّم الله -سبحانه- هذا البيت، وأمر بما فيه تعظيم له، كما نهى عن كلّ ما يؤدي إلى انتهاك حرمته؛ كالقتال، والقتل، ونحو ذلك؛ ومعلوم أنّ تعظيم شعائر الله -تعالى- وأوامره من تقوى القلوب؛ قال -تعالى-: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).[٧]


ذكر الله تعالى

بيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه أنّ السبب الذي جُعل له الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، ونحوها من الشعائر إنّما هو لإقامة ذكر الله -تعالى-؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبيتِ، وبينَ الصَّفا والمروةِ، ورمْيُ الجمارِ لإقامةِ ذِكْرِ اللَّهِ).[٨][٩]


والطائف بالكعبة المشرفة يذكر الله في كلّ أفعاله؛ سواء في المشي، أو في استلام الحجر الأسود والركن اليماني، أو في الصلاة خلف المقام، فكان الطواف سبباً لدوام ذكر الله -تعالى-.


التشبّه بالملائكة الكرام

أخبر الله -سبحانه- أنّ الملائكة الكرام يطوفون حول العرش في السماء، ويسبّحون المولى -جلّ في علاه-؛ قال -تعالى-: (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ...)؛[١٠] وفي معرفة المسلم لهذا الأمر سمو للروح، وإخلاص للعبادة، واستجلاب للرحمة والطمأنينة، وتقديسٌ للبيت، وللرب الكريم.[١١]


الحكمة من الطواف سبعة أشواط

التمس بعض المؤلفين من أهل العلم الحكمة من الطواف حول الكعبة سبعة أشواط على وجه التحديد؛ فقالوا إنّ ذلك يحمل عدّة دلالات؛ لعلّها تكون كالآتي:[١٢]

  • إنّ الوتريّة التي في الطواف -أيّ الرقم سبعة- فيها تذكير بالله الواحد، الوتر الصمد.
  • إنّ الوترية تحمل في الإسلام شأناً عظيماً في عدد من العبادات؛ مثل التكبيرات في الركعة الأولى من صلاة العيدين، وأعمال الحجّ السبعة؛ وفي هذا الأمر تدّبر وتأمل وتذكّر.
  • إدامة التفكر في شأن هذا الكون؛ الذي جعل الله -تعالى- فيه السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، وقدّر الأيام كذلك سبعاً.
  • التعبّد لله -تعالى- بما افترضه عليه؛ سواء علم المسلم الحكمة على نحوٍ مباشر أم لم يعلمها، فيدعوه ذلك لزيادة المثابرة والاجتهاد.


كما اجتهد أهل العلم في معرفة الحكمة من جعل الكعبة المشرفة على يسار الطائف، لا على يمينه؛ فقالوا إنّ العبادات قائمة على التعبّد والاتباع؛ والنبي -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بأداء المناسك على الهيئة التي قام هو فيها.[١٣]


إضافةً إلى أنّ الطائف لو بدأ طوافه جاعلاً الكعبة عن يمينه، ومبتدأً بالحجر الأسود؛ فإنَّه سيجعل باب الكعبة خلفه؛ وبذلك لا يصل إليه إلا في نهاية الشوط، وفي هذا إعراض عن وجه البيت، والإعراض في مثل هذا الموقف لا يصح ولا يليق.[١٣]

المراجع

  1. عبد العزيز بن عبد الله الراجحي، شرح تطهير الاعتقاد للصنعاني، صفحة 12، جزء 5. بتصرّف.
  2. مجموعة من المؤلفين، مجلة البحوث الإسلامية، صفحة 199-202، جزء 50. بتصرّف.
  3. سورة البقرة، آية:125
  4. سورة الحج، آية:29
  5. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:1614، صحيح.
  6. رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن عبد الله بن عمر، الصفحة أو الرقم:1616، صحيح.
  7. سورة الحج، آية:32
  8. رواه ابن خزيمة، في صحيح ابن خزيمة، عن عائشة أم المؤمنين، الصفحة أو الرقم:475 ، أخرجه في صحيحه.
  9. حسين بن محمد المهدي، صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، صفحة 492، جزء 2. بتصرّف.
  10. سورة الزمر، آية:75
  11. حسين بن محمد المهدي، صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، صفحة 490، جزء 2. بتصرّف.
  12. مجموعة من المؤلفين، فتاوى الشبكة الإسلامية، صفحة 20040، جزء 11. بتصرّف.
  13. ^ أ ب مجموعة من المؤلفين، فتاوى الشبكة الإسلامية، صفحة 20038، جزء 11. بتصرّف.