مقاصد الحجّ في الإسلام
جعل الله -سبحانه وتعالى- فريضة الحجّ من أعظم فرائض الإسلام، ولم يجعلها مجرد رحلة سياحيّة أو نزهة شيّقة، بل هي عبادة عظيمة، وفرصة إيمانية كبيرة، لها أحكامها، ومقاصدها، يهذبها المنهج الشرعيّ بالآداب الساميّة، والأخلاق العالية، لتعود بالنفع والفائدة على المسلمين جميعاً، وتكون بالطريقة التي أرادها الله -سبحانه-، وسنّها رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ويمكن توضيح مقاصد الحجّ التي من أجلها شرعه الله -تعالى- على عباده بما يأتي:
بناء التوحيد في النفوس
إنّ أعظم مقاصد الحجّ هو توحيد الله -تعالى-، حيث قال -سبحانه- في خطابه لنبيّه إبراهيم -عليه السلام-: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا...)،[١] ثم يقول -جلّ وعلا- في المقام نفسه: (... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ...)؛[٢] فيكون المقصد الأول من كل هذه الشعائر، ومن كل هذه المناسك هو توحيد الله -تعالى-، وإخلاص ذكره وشكره له وحده.[٣]
لأنّ كل منافع الحجّ التي تعود على المسلمين لن تنفع المولى -جلّ في علاه- ولن ينال منها شيئاً؛ فهو الأحد الصمد، الغنيّ المتفرد، الذي أمر بالشرائع ليجزي به عباده، وينفعهم ويشكرهم عليها، فلن يصعد إليه -سبحانه- إلا العمل الصالح؛ الذي يُقصد به توحيده وإفراده بالتّوجه والقصد؛ فليس للمسلم أن يتضرع إلا لله، وأن لا يستغيث إلا به، وأن يلجأ إلا إليه؛ فتكون صلاته للَّه، وحجّه للَّه، ونسكه كله للَّه.[٣]
تحقيق التقوى
ارتبط الحجّ ارتباطاً وثيقاً بالتقوى؛ فقد جاء في عدّة آيات قرآنية الحديث عن التقوى في بيان أحكام الحجّ وشرائعه؛ يقول -سبحانه وتعالى-: (... وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)،[٤] ففي الحجّ يتعلم المسلم كيف يتقي ربّه على نحوٍ صحيح؛ بالتزامه وانضباطه بالأحكام والطاعات التي شرعها الله -تعالى- في هذه الفريضة، وبمخافته من الله -تعالى-، وبحرصّه على تمام نُسكه وعبادته؛ فيعود المسلم من الحجّ وهو أكثر تقوى لله -تبارك وتعالى-.[٥]
تعظيم شعائر الله تعالى
أخبر المولى -سبحانه- أنّ من أهم مقاصد هذه العبادة العظيمة هي تعظيم شعائر الله -تعالى-؛ قال -تعالى-: (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)،[٦] ومجال تعظيم الله -تعالى- في الحجّ واسع لا حدود له؛ فتدخل فيه المناسك، والمحظورات، والأوامر، والنواهي، وشروط صحة العبادة، ونحوها من الأمور التي لا يُقبل عليها، أو يبتعد عنها المسلم إلا تعظيماً لله -تعالى- وامتثالاً لأوامره.[٧]
تنمية القيم الجماعية
الحج عبادة جماعيّة، لا يؤديها المسلم لوحده، بل تجتمع فيه الأمة الإسلاميّة من شتى البقاع، وشتى الأجناس واللغات؛ فيجتمعون أداء المناسك؛ في عرفات، وفي مزدلفة، وفي رمي الجمرات، وفي الطواف، والسعيّ، ونحوها من الشعائر؛ وفي هذا الاجتماع يتعلم المسلم كيفية التواصل والتعامل مع الآخرين، الذين قد لا يجمعه بهم إلا الإسلام، وبهذا يتحقق الانتماء للأمة والجماعة المسلمة، على اختلاف ألوانها وأصولها ومنابتها.
إضافةً إلى تربية النفس على قيم الصبر والتضحية والتحمّل، فالمسلم يحرص على تقديم غيره من أصحاب الحاجات، ولا يتعرّض لمن حوله من الحجّاج بالأذى والمزاحمة والتدافع، ويحرص على القيم التي تُسهّل وتيسر التعامل مع هذا الاجتماع الكبير؛ من الانضباط والهدوء، وحسن التدارك، والتعايش، ونحوها من القيم.
تربية جانب الأخلاق والسلوك
وصف بعض أهل العلم الحجّ بأنّه دورة تدريبيّة لممارسة الأخلاق والقيم الساميّة؛ فمناسكه تُؤدى في بلد الله الحرام؛ الذي حرّم فيه النيل من شجره، وطيره، وحجره، كما يأمن الإنسان في هذا البلد؛ فيُحرم قتله أو التعرّض له بالإيذاء؛ فيُمارس المسلم السلام في هذا المكان المقدّس، على وجه الإلزام والوجوب.[٨]
كما أنّ في الحجّ تربية للمسلمين على معاني المساواة بين جميع الخلق، الأبيض منهم والأسود، والعربي والأعجمي، والغني والفقير؛ كلّهم مقبلون على أداء نُسك واحد، بطريقة واحدة، وفي مكان واحد، لا فرق بينهم عند المولى -سبحانه- إلا بالتقوى، فيتهذّب سلوك المسلم الحاج، وتنتظم علاقته بربه، ثم بأخيه الإنسان، ثم بالكون من حوله، وبهذا يكون التوازن والسمو.[٨]
التخلّي عن العوائد
يتخلى المسلم في الحجّ عن عدد من الأمور التي اعتادها في حياته اليوميّة، من اللباس والطعام والرفاهية، والمحظورات، والزينة، والكثير من السلوكيّات؛ وذلك تسليماً لله -تعالى- وامتثالاً لشرعه وحكمه، وفي هذا تمهيد للمسلم وإعانة له على تغيير سلوكه غير المرغوب فيه؛ كالكسل والتسويف، والتقصير في العبادات والنوافل، فالحج يربي الإنسان على تجاوز هذه الأوضاع، وعلى التخلي عنها، وكسر الاعتياد وتجاوزه، والقدرة على إدارة النفس وتعويدها على أمور جديدة أكثر نفعاً وفائدة.[٩]
التنمية الاقتصادية
رتّب المولى -سبحانه وتعالى- على فريضة الحجّ العديد من المنافع الدنيويّة التي يجنيها المجتمع المسلم؛ فكان موسم الحجّ منذ القدم تنميةً للمال، وزيادةً للتجارة وتطويرها، وسبباً لعدم اكتناز المال وحصره على فئة دون أخرى، فيكون الحجّ موسماً لسدِّ حاجات الفقراء والمساكين، وتخليص أصحاب الديون من ديونهم، وتقويّة أصحاب الحِرف والمجالات المختلفة في اختصاصاتهم؛ مما يؤدي إلى التطور والنماء الحضاريّ والاقتصاديّ في المجتمع.[١٠]
ويكون بذلك تقريب الصلة بين أمور الدنيا والآخرة؛ إذ يمكن الجمع بين المنافع الدينيّة والدنيويّة، وهذا مما لم يُحرّمه الإسلام، أو ينهى عنه؛ وخير دليل على ذلك قوله -تعالى- في تجارة الحجّ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ...)،[١١] وقد كان سبب نزول هذه الآية كما ثبت في الصحيح أنّ الناس خافوا أن يلحق بهم الإثم، بسعيهم للتجارة في موسم الحجّ، فسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فنزلت هذه الآية الكريمة.[١٢]
مقاصد أخرى للحج
اجتهد العديد من أهل العلم في معرفة المقاصد والحِكم التي يقوم عليها تشريع الحجّ في الإسلام؛ فقالوا من ذلك:[١٣]
- تعزيز الارتباط بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام
يتعزز ارتباط المسلم بأنبياء الله -تعالى- في الحجّ بدءاً من إبراهيم -عليه السلام- الذي بنى البيت، ورفع قواعده وطهرّه مع ابنه إسماعيل -عليه السلام-، إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي عظّم البيت، وطهره من دنس الشرك والأوثان، فحريّ بالحاجّ المسلم، وهو يؤدي مناسكه بالحجّ أن يرتبط قلبه بأنبياء الله -تعالى-، ويعقد العزم على الاقتداء بهم.
- تذكر الموت والآخرة
إنّ لباس الإحرام للحاجّ الذي يتجرّد فيه من المخيط، ومن مظاهر الزينة والتجمّل؛ فيه تشبّه بحال الميت، الذي يتجرّد من لباسه وزينته، ويُلفّ بالأكفان البيضاء؛ وكلّ ذلك دون التفريق بين أحوال الناس وأوضاعهم الماديّة، أو مكانتهم الاجتماعيّة؛ فيتساوى الناس بالأكفان والقبور، ويتساوون بالحجّ وشعائره، فيكون هذا مدعاة لتذكر الآخرة، حين يجتمع الناس ليوم لا ريب فيه، متجردين من زينتهم، مقبلين على خالقهم، لا يحملون من متاع الدنيا شيئاً.
- تعزيز ارتباط المسلمين بقبلتهم
يتوجه المسلمون في صلاتهم إلى الكعبة المشرفة خمس مرات في اليوم، وفي الحجّ كذلك يتوجهون إليها في أداء العبادة والنُسك؛ فيكون بهذا الارتباط سرّ بديع؛ يُذكر المسلمون بأصالتهم، وتاريخهم العظيم، حيث كانت الكلمة واحدة، والهدف واحد، وقيم خالدة عزيزة؛ فيكون ذلك مصدر عزة وقوة لمن عقله وفهمه على نحوٍ صحيح.
- إرهاب أهل الكفر والمشركين
يشهد موسم الحجّ في كل عام إقبال الجموع الغفيرة، الكبيرة المهيبة، فيكون اجتماعاً عظيماً تتوحد فيه النفوس والقلوب والصفوف، فيُعطي ذلك إشارةً لأعداء الإسلام أنّ هذه الجموع لا بدّ لها أن تتوحد بعد الفرقة كما توحدت في أداء هذه العبادة العظيمة، فيكون ذلك مدعاة لخوفهم وقلقهم الدائم.
- تعويد النفس على انتظار الفرج بعد الشدّة
إنّ تذكر المسلم لحال أم إسماعيل -عليهما السلام- وهي تسعى بين الصفا والمروة، وتبحث عمّا يروي طفلها، أو عن أحدٍ يؤنس وحشتها، ثم تذكر ما كان لها بعد ذلك، حيث أعقبها المولى بتفريج كربتها وتبديد خوفها، وإنزال الرحمة عليها وإكرامها؛ كلّ ذلك مدعاة لتعويد النفس على انتظار الفرج، فالحاجّ الذي يشقّ عليه أداء العبادات والمناسك مع شدّة الزحام، وبعد المسافات، وطول الأوقات؛ يصبّر نفسه حتى ينال الفرج والرحمة، والخير والبركة؛ بانقضاء المناسك، وانتهائها بالغفران والعطاء الجزيل.
- تعظيم الزمان وتذكر قيمته
إذا أدرك الحاجّ أنّه في برهة يسيرة من الزمن؛ للقيام بالطاعات والقربات، والتزوّد من الخيرات والبركات؛ فإن ذلك أدعى لحسن استثمار الوقت، وتقدير قيمته، وشحذ الهمم في تداركه، والمسارعة إلى صيانته من الإهمال والإغفال.
- مغفرة الذنوب
إنّ في الحجّ فرصة كبيرة لأنّ يتنقى الإنسان من ذنوبه ومعاصيه؛ فيعود كيوم ولدته أمّه، مغفور له مرحوماً، مستحقاً للجزاء الجليل والفوز بالجنّة؛ فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (... والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ).[١٤]
- شكر الله تعالى على نعمه
حين يُبصر الحاجّ أحوال المسلمين من حوله في الحجّ، وينظر للضعيف والفقير، والمريض والمُبتلى؛ فإنّ ذلك يدعوه إلى شكرِ نعم الله عليه، وتذكر ما هو فيه من نعمةٍ قد لا تتوفر عند غيره، بالإضافة إلى شكر الله -تعالى- على تمام النُسك، وإخلاص العبادة، والرزق الكثير، ونعمة الإسلام التي هي أجلّ نعمة أكرمه الله -تعالى- بها، والتي كانت سبباً في تواجده في مكان ووقت كهذا، وفي عبادة كهذه.
المراجع
- ↑ سورة الحج، آية:26
- ↑ سورة الحج، آية:30-31
- ^ أ ب عبد القادر شيبة الحمد، فقه الإسلام شرح بلوغ المرام، صفحة 231-232، جزء 4. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:197
- ↑ محمد الدويش، دروس الشيخ محمد الدويش، صفحة 6، جزء 44. بتصرّف.
- ↑ سورة الحج، آية:32
- ↑ عبد الرحمن السديس، دروس للشيخ عبد الرحمن السديس، صفحة 6، جزء 103. بتصرّف.
- ^ أ ب منقذ السقار، تعرف على الإسلام، صفحة 26-28. بتصرّف.
- ↑ محمد الدويش، دروس الشيخ محمد الدويش، صفحة 8، جزء 44. بتصرّف.
- ↑ نور الدين الخادمي، علم المقاصد الشرعية، صفحة 173-174. بتصرّف.
- ↑ سورة البقرة، آية:198
- ↑ عبد الحي يوسف، دروس الشيخ عبد الحي يوسف، صفحة 8، جزء 15. بتصرّف.
- ↑ سليمان بن حمد العودة، شعاع من المحراب، صفحة 226-230، جزء 7. بتصرّف.
- ↑ رواه البخاري، في صحيح البخاري، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم:1773 ، صحيح.